الاثنين، 26 نوفمبر 2012

ماكيافيلي وأميره... عود على بدء!


ماكيافيلي وأميره... عود على بدء!
هل لايزال ما خطته أنامل ماكيافيلي قبل خمسة قرون صالحاً في هذا القرن?
نيكولو ماكيافيلي هذا الذي ظل حتى آخر سنين عمره في النصف الأول من القرن السادس عشر يتودد بكتابه الشهير لدى أمراء فلورنسا من آل مديتشي عله يعاد إلى سابق عهده كاتبا في ديوان الدولة, وهو الأمر الذي لم يظفر به بالمناسبة, ماكيافيلي هذا ينبغي إنصافه مرتين. فقد عاش الرجل في آخر عقود عصر النهضة بين أفول القرون الوسطى من ناحية واكتشاف العالم الجديد وانبلاج العصر الحديث من ناحية أخرى بكل ما يعنيه ذلك من دفق فكري مضطرد. ولذا فقد عانت التركة الفكرية لذلك الفلورنسي من ضياع بعض قيمتها في خضم ذلك الدفق. فبالنظر إلى تلك التركة يبدو ماكيافيلي واضع بذور الفلسفة البراغماتية حيث تتمثل قيمة الأفكار والسلوك بتحقق ما يتوخى منها من نتائج. ومثل هذا الفضل ينسب كما هو معروف إلى فلاسفة العالم الجديد مثل جون ديوي ومن سبقه, أي بعد أكثر من ثلاثمئة عام من ممات ماكيافيلي. ففي مواضع عديدة من سفره الشهير الموسوم بالأمير يردد ماكيافيلي أصداء تلك الفكرة من أن العبرة بالنتيجة. حقا إن الأمر يكتسب وفق النص بعدا متطرفا حين يدعو كاتبه إلى أن الغاية تبرر الوسيلة حتى وإن جاء ذلك خارجا عما هو متعارف عليه من معايير. غير أن السياق التاريخي للنص والذي عاصر أشد ما عرفته إيطاليا من انقسام واضطراب, هذا من ناحية, وكذلك النصح الذي يسديه ماكيافيلي للأمير بعدم استخدام القوة إلا حال الضرورة, كل ذلك يضع بعض القيود على مبدأ أولوية الغاية على الوسيلة.
الأمر الآخر الذي ينبغي إنصاف الرجل فيه هو ريادته في وضع يده على الظاهرة السياسية كما يدرسها علم السياسة اليوم, أي متخلصة من الإطار الأخلاقي كما عرفت في مأثور اليونان والعصور الوسطى, ومن الإطار القانوني كما كانت تدرس حتى منتصف القرن الماضي. بعبارة أخرى, لقد حصر ماكيافيلي الظاهرة السياسية بشأن أبسط موضوعاتها, أي القوة, وواصل مستفيضا في تقديم نصحه للأمير بكيفية الاستحواذ عليها, سبل صيانتها, ومحاذير التفريط بها.
وبمزيج من هذين الجانبين يضع ماكيافيلي نموذجا عمليا للفلسفة السياسية, يعين من خلاله الخلال اللازمة للأمير الباحث عن القوة, ويقدم لهذا وصفات جاهزة لمختلف المواقف والتي جاءت محصلة لخبرة طويلة في بلاط آل مديتشي في فلورنسا وثمرة لمطالعاته لما أعقبه إياه والده من ذخيرة كتب. ومبدأ تلك الفلسفة هو أن الأمير الناجح لا ينبغي أن يقف مكتوف الأيدي أمام صروف القدر. فشأن القدر هنا كشأن النهر الجارف الذي رغم قوته الكاسحة يمكن ترويضه بالسدود وقنوات الصرف. ولذا فعلى الأمير ألا يجزع وأن يؤمن بقدرته على التأثير في مجرى الأحداث في سبيل تثبيت ركائز حكمه, بل إن ماكيافيلي يستطرد حين يشبه القدر بالمرأة التي أبدا تطاوع من يروضها. ولذا فلا يجب أن يحول بين الأمير وتحقيقه لأمانيه حائل. وفي سبيل أسمى تلك الأماني, أي ضمان سلامة الحكم على الأمير ألا يبدو خيرا دائما, بل بحسب ما تقتضيه الأمور. فبعض الفضائل قد تورد المهالك في حين قد يضمن بعض الظلم سلامة الملك.
وفضلا عن التهيئة النفسية للأمير يرى ماكيافيلي أن سياسة واعدة للأمير كفيلة بتحقيق أهدافها تنبني على ثلاثة أركان. يتمحور الركن الأول حول أدوات القوة في يد الأمير. ومن هذه الأدوات يأتي جمع الوزراء وأفراد الحامية في المقام الأول. ففي اختياره لوزرائه على الأمير أن يراعي جانب الحكمة والعمل المثابر. فمثل ذلك خير تزكية للأمير أمام رعيته وكفيل بمده بالمشورة والرأي الراجح. وليس أدل على أن وزيرا لم يعد محل ثقة من أن يلحظ الأمير أن هم ذلك الوزير صار يحوم حول شأنه الخاص. وفي حين يرى ماكيافيلي في الوزراء أو عقل الدول هذا الرأي فلا يرى أداة تحفظ شوكة الدول أفضل من جيش وطني نظامي. وهو يقطع بهذا الرأي من استعراضه للبدائل المتاحة للأمير للذود عن حياض ملكه. فبديل الجيش الوطني لن يتعدى الاعتماد على جنود مرتزقة أو قوات حليفة أو خليط من هذا وذاك. فالجنود المرتزقة يعدمهم الانضباط والإيمان بمبدأ, وهم جشعون في السلم وجبناء في الحرب. وعليه فدمار دولة تركن في حمايتها إلى المرتزقة هو في حكم المحتوم بمجرد اندلاع حرب. أما الاعتماد على قوات حليفة فهو أدهى وأنذر بالمخاطر, ذلك لأن مثل هذه القوات نظامية الطابع تتحلى بالانضباط وتأتمر بأمر أمير آخر.
ويحوم الركن الثاني حول علاقة الأمير برعيته. هنا يضع ماكيافيلي قاعدة عامة بأن ليس هناك من مبرر للأمير أن يخسر ود رعيته في حين يتسنى له كسب ذلك. فحسبه حين استخدام العسف أن يكون بمقدار الضرورة التي تحقق الغاية, وأن يبتعد من البطش أو العدو على حقوق الرعية. وعليه في كل الأحوال أن يبدي عدالة تجاه الرعية وعدم تفرقة بين الأفراد في الثواب أو العقاب. ومثل هذه السجايا للأمير ادعى في الأنظمة الملكية حيث ينصب الأمير على الرعية من غير ممارسة دورهم في الاختيار. على أي حال فإن من شأن مثل هذه علاقة ودية بين الأمير ورعيته وقائمة على العدل في السراء والضراء أن توفر للأمير إلى جانب استتباب النظام ضمانة ضد ما يمكن أن يحاك ضده من مؤامرات, إذ أن أحد أهم دوافع المتآمرين هو ترحيب الرعية بالإطاحة بأمير انقلب طاغية!
يتناول الركن الثالث سياسة الأمير الخارجية في سبيل تأمين ملكه, خصوصاً في عهود الاضطراب كما شهدتها ايطاليا في هاتيك الفترة. وفي سبيل تلك الغاية لا ينبغي للأمير أن يجزع من المواجهة أو أن يتجنب الحرب. ذلك ببساطة لأن الحرب لا تتجنب. بل إن الإفصاح عن الخشية قد تكون سببا في طمع الغير ونشوء العداوات. فالحرب في هذا السياق عادلة وتمثل أصح استخدام للعسف, إذ هو دفاع عن النفس. وخير العلاج ما كان سهلا حتى وإن كان التشخيص صعبا, أما حين استفحال الأمر يصبح التشخيص يسيرا بينما يضحي العلاج عسير المنال على حد كلمات الرجل. كما أن للحرب المظفرة أكثر من مزية; ففي حين تعمل على تفريغ الفائض من طاقة الشعب إلى الخارج فهي حتما ترفع من صيت الأمير.
على أن القرار بإعلان الحرب لا ينحصر فقط في الظروف المهددة لاستقرار الملك على نحو المباشر بل يتعدى ذلك إلى الوقوف على ما يجري خارج نفوذ الأمير من اضطرابات. فأمير يعرف ما يريد ولا تعدمه الحيلة أو القوة لتحقيق ذلك لا ينبغي له أن يسلك سلوك الحياد, بل عليه أن يكشف عن نفسه أمام القوى المتصارعة من حوله إما كصديق وفي وإما عدو بين. وبمنهجية تحاكي ما هو معروف اليوم بنظرية الألعاب (Game Theory), يخلص إلى أن أميرا يتبنى الحياد حيال حرب تنشب في جواره سيكون الخسران نصيبه كيفما انتهت تلك الحرب. فلن يثق به منتصر ولن يغفر له مهزوم, ولن يتلقى مساعدة أيا كانت حين تدور عليه الدوائر. عكس الحال لو أبدى موقفا ملتزما تجاه تلك الحرب, إذا سيكسب في كل الأحوال. ففي حال كان النصر من نصيب حليفه فسيبدي هذا تجاهه التزاما مماثلا. وفي حال كانت الهزيمة هي مصير الحليف فسيكون قد كسب صديقا على الأقل.
هذا ما خطته أنامل نيكولو ماكيافيلي قبل نحو خمسة قرون, فهل لا يزال لها في هذا القرن وجه استخدام?
     كاتب كويتي                                                  
عند ماكيافيلي المجتمع يتطور بأسباب طبيعية، فالقوى المحركة للتاريخ هي
"المصلحة المادية" و"السلطة". وقد لاحظ صراع المصالح بين جماهير الشعب
والطبقات الحاكمة، وطالب ماكيافيلي بخلق دولة وطنية حرة من الصراعات
الإقطاعية القاتلة، وقادرة على قمع الاضطرابات الشعبية. وكان يعتبر من
المسموح به استخدام كل الوسائل في الصراع السياسي، فمكيافيلي القائل
"الغاية تبرر الوسيلة" برر القسوة والوحشية في صراع الحكام على السلطة.
وكانت أهمية ماكيافيلي التاريخية أنه كان واحدا من أوائل من رؤوا الدولة
بعين إنسانية واستنبطوا قوانينها من العقل والخبرة وليس من اللاهوت.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق